إن إحاطة السيد غسان سلامة أمام مجلس الأمن بتاريخ 29 يوليو 2019 لم تكن فقط مواصلة لما دأب عليه خلال إحاطته السابقة من مغالطات وخلط للأوراق والدوران حول الحقائق، ولكنها علاوة على ذلك حفلت بمضامين تجسد انحيازا كاملا للمعتدي وتماهيا مع العدوان وتنفيذا لأجندات من يقف وراءه ويدعمه.
لقد حملت الإحاطة توصيفا للحرب العدوانية على غير الحقيقة، ومساواة بين المعتدي الصائل والمدافع، وإخفاء لمسؤوليات المعتدي وتفاديا لإدانته، ومحاولة لتوجيه اتهامات باطلة إلى المدافعين عن العاصمة.
إحاطة السيد سلامة صورت الحرب على أنها نزاع بين طرفين محاولا المساواة بينهما في المسؤولية عن إثارة الحرب وتأجيجها وإدامتها وما يترتب عنها من نتائج. وتجاهل حقيقة أن الحرب إنما هي هجوم غادر شنه خليفه حفتر مستخدما ميليشيات مسلحة ومستخدما كل أنواع الأسلحة بهدف احتلال العاصمة والانقلاب على الحكومة الشرعية المعترف بها من قبل المنظمة التي يمثلها، ومن ثم الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح. ونتيجة لهذا التجاهل فقد جاءت فقرات الإحاطة لتسمي الأمور بغير مسمياتها، ولتتفادى تحميل ميليشيات حفتر المسؤولية عما أسفرت عنه الحرب من قتلى وجرحى ومهجرين علاوة على الدمار الذي أصاب ممتلكات المواطنين ومساكنهم.
إن كل متابع يدرك تمام الإدراك أن حفتر مسؤول عن تكثيف الغارات الجوية، واستخدام الأسلحة الثقيلة والهجمات البرية، واستخدام المرتزقة الأجانب، واستهداف المواقع المدنية بما فيها المستشفيات وسيارات الإسعاف والمسعفين والمدارس وغيرها مما ينبغي إدانته باعتبارها جرائم حرب وإخلال بالنظام والقانون الإنساني الدولي. لكن السيد سلامة يُصر على استخدام صيغة المبني للمجهول عند التطرق إلى الانتهاكات التي تقوم بها قوات حفتر، ومثال ذلك: رفضه أن يسمي من قام بقصف مركز الإيواء في الوقت الذي اتهــــم فيه حكومة الوفاق بالاسم بان حراس الموقع هم من قتلوا المهاجرين، وكذلك رفضه تسمية من اعتدى على المستشفيات وسيارات الإسعاف والطواقم الطبية.
كذلك فنجد أن الإحاطة مليئة بالفخاخ ومثال على ذلك:
- طلب إغلاق مراكز إيواء المهاجرين غير الشرعيين وإطلاق سراحهم، وهو طلب غريب جدا لن تتمكن الحكومة من التعامل معه في ظل الحرب الدائرة، وهذا الطلب ليس سوى امتداد لمساعي فرض توطين المهاجرين، ومقدمة لإدانة حكومة الوفاق إذا ما قام حفتر بالاعتداء على مراكزهم مرة أخرى. لقد كان الأحرى به أن يطالب الأمم المتحدة باتخاذ التدابير لترحل المهاجرين إلى أوطانهم.
- مطالبته لحكومة الوفاق بعدم الدفاع عن مطار معيتيقة وعدم استخدامه في الدفاع عن طرابلس، بحجة أن ذلك يبرر لحفتر مواصلة اعتداءاته المتكررة على المطار والتي هددت وتهدد سلامة الركاب المدنيين. ويبقى التساؤل المشروع لماذا لم يطالب حفتر بأن يمتنع عن استخدام مطارات الجفرة والوطية وبنينه والأبرق وقاعدة الخادم ومطارات الموانئ والحقول النفطية، علاوة على مطارات الدول المؤيدة للعدوان. ولعله من المناسب ملاحظة أن حفتر قد وجه ضربات لمطار معيتيقة بمجرد انتهاء الإحاطة في وقت كانت طائرة الخطوط الليبية تستعد للإقلاع وعلى متنها الركاب المسافرين إلى صفاقس ما أدى إلى تعليق الرحلات الجوية.
- تحدث بشكل مبهم عن الأسلحة التي وجدت في غريان بعد دحر ميليشيات حفتر، فلم يشر إلى أن الأسلحة والذخائر وجدت في غرفة عمليات ميليشيات حفتر في غريان.
- رحب بعقد اجتماع عدد من أعضاء مجلس النواب الليبي في مصر، واستنكر اجتماع أعضاء من مجلس النواب الليبي في طرابلس، على الرغم من أن الاتفاق السياسي الليبي الذي يفترض أن البعثة ترعاه يجيز انعقاد اجتماعات مجلس النواب في أي مدينة ليبية. وفي هذا تدخل صارخ في شؤون مجلس النواب وفي لوائحه ونظمه، وانحياز فاضح وتسليم بجواز تدخل دولة أخرى في شؤون المجلس.
- تناول الوضع في الجنوب دون تحديد من المسئول عن تدهور الأوضاع علما بأن البعثة تصر على أن الجنوب واقع تحت سيطرة حفتر.
- تجاهل اختطاف السيد محمد أبوغمجة عضو المجلس الأعلى للدولة والذي اختطفته قوات حفتر من بيته في قصر بن غشير في ضواحي طرابلس وأخضع للتعذيب والتحقيق لمدة طويلة، وتم الإفراج عنه مؤخرا في مدينة بنغازي، وهي قرصنة وجريمة ارتكبتها الميليشيات التابعة لحفتر. غير أن السيد سلامة تفادى إدانتها.
- على الرغم من تواتر الدلائل على أن قوات تابعة لأحد أبناء خليفة حفتر هي من قامت بمهاجمة بيت السيدة سهام سرقيوة وحرقه والاعتداء عليها وعلى زوجها ثم اختطافها وتغييبها إلا أن السيد سلامة اكتفى بالإشارة إلى حادثة اختطافها.
- تجاهل مشاركة المجرم محمود الورفلي المطلوب دوليا في جرائم قتل وإعدامات خارج القانون في القتال مع حفتر وترقيته مؤخرا إلى رتبة مقدم من قبل حفتر من قبيل المكافأة له، وتجاهل مشاركة متطرفين ومرتزقة أجانب ضمن الميليشيات التابعة لحفتر، وحاول اتهام القوات المدافعة عن طرابلس بأنها تتضمن عناصر إرهابية.
- في الوقت الذي يقر بأن تكون الدولة الليبية هي وحدها من يحق لها امتلاك السلاح لكنه يصف جيش حكومة الوفاق بأنه القوات التي تتبع حكومة الوفاق ويرفض ان تقوم هذه الحكومة بتحمل مسئولياتها في الدفاع عن نفسها. ويسمي ميليشيات حفتر بالجيش.
- إن تصنيف الحروب التي افتعلها وشنها مجرم الحرب خليفه حفتر على أنها بسبب الاختلاف في تقاسم الثروة وتوزيعها ليس سوى محاولة رخيصة متهافتة لصرف الأنظار عن حقيقة هذه الحرب كونها سعيا من حفتـر للاستيلاء على السلطــة وإخضاع البلاد لحكــم عسكـري غاشــم، وحرصا من المدافعين عن حلم الدولة المدنية من عدم الوقوع مجددا تحت ديكتاتورية أطاحت بها ثورة الشعب الليبي في فبراير 2011.
- إن أول أولويات رئيس بعثة الأمم المتحدة هو الوقوف إلى جانب السلطة الشرعية في تصديها للعدوان وإرساء أسس الدولة المدنية، غير أن السيد سلامة يساوي بين إصرار حفتر على احتلال وإخضاع طرابلس بل وليبيا كلها لهيمنته وبين إصرار المدافعين على العاصمة وعلى مدنية الدولة.
إن إحاطة السيد غسان سلامة قد نزعت عنه أية مصداقية في معالجة الشأن الليبي، وكشفت تنكره للاتفاق السياسي الليبي باعتباره المرجعية التي يفترض بالبعثة أن ترعاه وتعمل في إطاره. كما كشفت عدم اعتداده بالشرعيات التي اعتمدها الاتفاق وانحيازه الكامل لمجرم الحرب خليفه حفتر وتنفيذه لأجندات خبيثة تحول دون استقرار ليبيا.
ولهذه الأسباب فإن السيد غسان سلامة فقد كل مقومات الوسيط النزيه المحايد، ولم يعد في نظرنا أهلا للثقة، ما يملي على الليبيين بكافة توجهاتهم وعلى الأخص الهيئات السيادية في البلاد أن توقف التعامل معه وتطالب الأمين العام للأمم المتحدة باستبداله والنظر في دور البعثة ودور موظفيها.